فصل: تفسير الآيات رقم (139- 148)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 26‏]‏

‏{‏وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏20‏)‏ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏21‏)‏ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ‏(‏22‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ‏(‏23‏)‏ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ‏(‏24‏)‏ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ‏(‏25‏)‏ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقالوا يا ويلنا هذا يومُ الدين‏}‏ الآية‏.‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يوم الحساب، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ يوم الجزاء، قاله قتادة‏.‏

‏{‏هذا يوم الفصل‏}‏ الآية‏.‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يوم القضاء بين الخلائق، قاله يحيى‏.‏

الثاني‏:‏ يفصل فيه بين الحق والباطل، قاله ابن عيسى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏احشروا الذين ظلموا‏}‏ الآية‏.‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ المكذبون بالرسل‏.‏

الثاني‏:‏ هم الشُرَط، حكاه الثوري‏.‏

الثالث‏:‏ هم كل من تعدى على الخالق والمخلوق‏.‏

وفي ‏{‏وأزواجهم‏}‏ أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أشباههم فيحشر صاحب الزنى مع صاحب الزنى، وصاحب الخمر مع صاحب الخمر، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

الثاني‏:‏ قرناؤهم، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أشياعهم، قاله قتادة، ومنه قول الشاعر‏:‏

فكبا الثور في وسيل وروض *** مونق النبت شامل الأزواج

الرابع‏:‏ نساؤهم الموافقات على الكفر، رواه النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

‏{‏وما كانوا يعبدون من دون الله‏}‏ وفيهم ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ إبليس، قاله ابن زياد‏.‏

الثاني‏:‏ الشياطين، وهو مأثور‏.‏

الثالث‏:‏ الأصنام، قاله قتادة وعكرمة‏.‏

‏{‏فاهدُوهم إلى صراط الجحيم‏}‏ أي طريق النار‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاهدوهم‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ فدلوهم، قاله ابن‏.‏

الثاني‏:‏ فوجهوهم، رواه معاوية بن صالح‏.‏

الثالث‏:‏ فادعوهم، قاله السدي‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقفُوهم إنَّهم مسئولون‏}‏ أي احبسوهم عن دخول النار‏.‏

‏{‏إنهم مسئولون‏}‏ فيه ستة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ عن لا إله إلا الله، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ عما دعوا إليه من بدعة، رواه أنس مرفوعاً‏.‏

الثالث‏:‏ عن ولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حكاه أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري‏.‏

الرابع‏:‏ عن جلسائهم، قاله عثمان بن زيادة‏.‏

الخامس‏:‏ محاسبون، قاله ابن عباس‏.‏

السادس‏:‏ مسئولون‏.‏

‏{‏ما لكم لا تناصرون‏}‏ على طريق التوبيخ والتقريع لهم، وفيهم ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لا ينصر بعضكم بعضاً، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ لا يمنع بعضكم بعضاً من دخول النار، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ لا يتبع بعضكم بعضاً في النار يعني العابد والمعبود، قاله قتادة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهلا كانوا مسئولين قبل قوله ‏{‏فاهْدوهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏؟‏

قيل‏:‏ لأن هذا توبيخ وتقريع فكان نوعاً من العذاب فلذلك صار بعد الأمر بالعذاب‏.‏

قال مجاهد‏:‏ ولا تزول من بين يدي الله تعالى قدم عبد حتى يُسأل عن خصال أربع‏:‏ عمره فيهم أفناه، وجسده فيم أبلاه، وماله مم اكتسبه وفيم أنفقه، وعلمه ما عمل فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 37‏]‏

‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏27‏)‏ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ‏(‏28‏)‏ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏29‏)‏ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ‏(‏30‏)‏ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ‏(‏31‏)‏ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ‏(‏32‏)‏ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ‏(‏34‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏35‏)‏ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ‏(‏36‏)‏ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أقبل الإنس على الجن، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ بعضهم على بعض، قاله ابن عباس‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أقبل الاتباع على المتبوعين‏.‏

وفي ‏{‏يتساءلون‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يتلاومون، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ يتوانسون، وهذا التأويل معلول لأن التوانس راحة، ولا راحة لأهل النار‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ يسأل التابع متبوعه أن يتحمل عنه عذابه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين‏}‏ وفي تأويل ذلك قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ قاله الإنس للجن‏.‏ قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ قاله الضعفاء للذين استكبروا، قاله ابن عباس‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏تأتوننا عن اليمين‏}‏ ثمانية تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ تقهروننا بالقوة، قاله ابن عباس، واليمين القوة، ومنه قول الشاعر‏:‏

اذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ *** تَلقاها عَرابةُ باليمين

أي بالقوة والقدرة‏.‏

الثاني‏:‏ يعني من قبل ميامنكم، قاله ابن خصيف‏.‏

الثالث‏:‏ من قبل الخير فتصدوننا عنه وتمنعوننا منه، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ من حيث نأمنكم، قاله عكرمة‏.‏

الخامس‏:‏ من قبل الدين أنه معكم، وهو معنى قول الكلبي‏.‏

السادس‏:‏ من قبل النصيحة واليمين، والعرب تتيمن بما جاء عن اليمين ويجعلونه من دلائل الخير ويسمونه السانح، وتتطير بما جاء عن الشمال ويجعلونه من دلائل الشر ويسمونه البارح، وهو معنى قول عليّ بن عيسى‏.‏

السابع‏:‏ من قبل الحق أنه معكم، قاله مجاهد‏.‏

الثامن‏:‏ من قبل الأموال ترغبون فيها أنها تنال بما تدعون إليه فتتبعون عليه، وهو معنى قول الحسن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 49‏]‏

‏{‏إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ ‏(‏38‏)‏ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏39‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏40‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ‏(‏41‏)‏ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ‏(‏42‏)‏ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏43‏)‏ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏44‏)‏ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ‏(‏45‏)‏ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ‏(‏46‏)‏ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ ‏(‏47‏)‏ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ‏(‏48‏)‏ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يُطاف عليهم بكأسٍ من مَعينٍ‏}‏ أي من خمر معين وفيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الجاري؛ قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ الذي لا ينقطع، حكاه جويبر‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الذي لم يعصر، قاله سعيد بن أبي عروبة‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أنه الخمر بعينه الذي لم يمزج بغيره‏.‏

وفي المعين من الماء خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الظاهر للعين، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ ما مدّته العيون فاتصل ولم ينقطع، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الشديد الجري من قولهم أمعن في كذا إذا اشتد دخوله فيه‏.‏

الرابع‏:‏ أنه الكثير مأخوذ من المعين وهو الشيء الكثير‏.‏

الخامس‏:‏ أنه المنتفع به مأخوذ من الماعون، قاله الفراء‏.‏

‏{‏بيضاء لذَّةٍ للشاربين‏}‏ يعني أن خمر الجنة بيضاء اللون، وهي في قراءة ابن مسعود صفراء‏.‏

ويحتمل أن تكون بيضاء الكأس صفراء اللون فيكون اختلاف لونهما في منظرهما قال الشاعر‏:‏

فكأن بهجتها وبهجة كأسها *** نار ونور قيّدا بوعاء‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا فيها غَوْلٌ‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أي ليس فيها صداع، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ ليس فيها وجع البطن، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ ليس فيها أذى، قاله الفراء وعكرمة وهذه الثلاثة متقاربة لاشتقاق الغول من الغائلة‏.‏

الرابع‏:‏ ليس فيها إثم، قاله الكلبي‏.‏

الخامس‏:‏ أنها لا تغتال عقولهم، قاله السدي وأبو عبيدة، ومنه قول الشاعر‏:‏

وهذا من الغيلة أن *** يصرع واحد واحدا

‏{‏ولا هم عنها ينزفون‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ لا تنزف العقل ولا تذهب الحلم بالسكر، قاله عطاء، ومنه قول الشاعر‏:‏

لعمري لئن أنزفتم أو صحوتُم *** لبئس الندامى كنتم آل أبجرا

الثاني‏:‏ لا يبولون، قاله ابن عباس، وحكى الضحاك عنه أنه قال‏:‏ في الخمر أربع خصال‏:‏ السكر والصداع والقيء والبول، فذكر الله تعالى خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال‏.‏

الثالث‏:‏ أي لا تفنى مأخوذ من نزف الركية، قاله أبو عمرو بن العلاء، ومنه قول الشاعر‏:‏

دعيني لا أبا لك أن تطيقي *** لحاك الله قد أنزفت ريقي

وقد يختلف هذا التأويل باختلاف القراءة، فقرأ حمزة والكسائي، ينزفون بكسر الزاي، وقرأ الباقون يُنزَفون بفتح الزاي، والفرق بينهما أن الفتح من نزف فهو منزوف إذا ذهب عقله بالسكر، والكسر من أنزف فهو منزوف إذا فنيت خمره، وإنما صرف الله تعالى السكر عن أهل الجنة لئلا ينقطع عنهم التذاذ نعيمهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وعندهم قاصِراتُ الطّرفِ عينٌ‏}‏ يعني بقاصرات الطرف النساء اللاتي قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم مأخوذ من قولهم‏:‏ قد اقتصر على كذا إذا اقتنع به وعدل عن غيره، قال امرؤ القيس‏:‏

من القاصرات الطرف لو دب مُحولٌ *** من الذّرّ فوق الخد منها لأثّرا

وفي العين وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الحسان العيون، قاله مجاهد ومقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ العظام الأعين، قاله الأخفش وقطرب‏.‏

‏{‏كأنهن بيضٌ مكنون‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني اللؤلؤ في صدفه، قاله ابن عباس، ومنه قول الشاعر‏:‏

وهي بيضاء مثل لؤلؤة الغوا *** ص ميزت من جوهر مكنون

الثاني‏:‏ يعني البيض المعروف في قشره، والمكنون المصون‏.‏

وفي تشبيههم بالبيض المكنون أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ تشبيهاً ببيض النعام يُكنّ بالريش من الغبار والريح فهو أبيض إلى الصفرة، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ تشبيهاً ببطن البيض إذا لم تمسه يد، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ تشبيهاً ببياض البيض حين ينزع قشرة، قاله السدي‏.‏

الرابع‏:‏ تشبيهاً بالسحاء الذي يكون بين القشرة العليا ولباب البيض، قاله عطاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 61‏]‏

‏{‏فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏50‏)‏ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ‏(‏51‏)‏ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ‏(‏52‏)‏ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ‏(‏53‏)‏ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ‏(‏54‏)‏ فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ‏(‏55‏)‏ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ‏(‏56‏)‏ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ‏(‏57‏)‏ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ‏(‏58‏)‏ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏59‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏60‏)‏ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏}‏ يعني أهل الجنة كما يسأل أهل النار‏.‏

‏{‏قال قائلٌ منهم‏}‏ يعني من أهل الجنة‏.‏

‏{‏إني كان لي قرين‏}‏ يعني في الدنيا، وفيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الشيطان كان يغويه فلا يطيعه، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ شريك له كان يدعوه إلى الكفر فلا يجيبه، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ أنهما اللذان في سورة الكهف ‏{‏واضرب لهم مثلاً رجلين‏}‏ إلى آخر قصتهما، فقال المؤمن منهما في الجنة للكافر في النار‏.‏

‏{‏يقول أئنك لمن المصدقين‏}‏ يعني بالبعث‏.‏

‏{‏أئذا مِتْنَا وكُنَّا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ لمحاسبون، قاله مجاهد وقتادة والسدي‏.‏

الثاني‏:‏ لمجازون، قاله ابن عباس ومحمد بن كعب من قوله‏:‏ كما تدين تدان‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قال هل أنتم مطلعون‏}‏ وهذا قول صاحب القرين للملائكة وقيل لأهل الجنة، هل أنتم مطلعون يعني في النار‏.‏ يحتمل ذلك وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لاستخباره عن جواز الاطلاع‏.‏

الثاني‏:‏ لمعاينة القرين‏.‏

‏{‏فاطّلَعَ‏}‏ يعني في النار‏.‏ ‏{‏فرآه‏}‏ يعني قرينه ‏{‏في سواءِ الجحيم‏}‏ قال ابن عباس في وسط الجحيم، وإنما سمي الوسط سواءً لاستواء المسافة فيه إلى الجوانب قال قتادة‏:‏ فوالله لولا أن الله عَرّفه إياه ما كان ليعرفه، لقد تغير حبْرُهُ وسبرُه يعني حسنه وتخطيطه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قال تالله إن كِدْتَ لتُرْدين‏}‏ هذا قول المؤمن في الجنة لقرينه في النار، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لتهلكني لو أطعتك، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ لتباعدني من الله تعالى، قاله يحيى‏.‏

‏{‏ولولا نعمة ربي‏}‏ يعني بالإيمان ‏{‏لكنت من المحْضَرين‏}‏ يعني في النار، لأن أحضر لا يستعمل مطلقاً إلا في الشر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 74‏]‏

‏{‏أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ‏(‏62‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ‏(‏63‏)‏ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ‏(‏64‏)‏ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ‏(‏65‏)‏ فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ‏(‏66‏)‏ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ‏(‏67‏)‏ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ‏(‏68‏)‏ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ‏(‏69‏)‏ فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ‏(‏70‏)‏ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏71‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ‏(‏72‏)‏ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏73‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أذلك خيرٌ نزلاً أم شجرة الزقوم‏}‏ والنُّزل العطاء الوافر ومنه إقامة الإنزال، وقيل ما يعد للضيف والعسكر‏.‏ وشجرة الزقوم هي شجرة في النار يقتاتها أهل النار، مرة الثمر خشنة اللمس منتنة الريح‏.‏

واختلف فيها هل هي من شجر الدنيا التي يعرفها العرب أولا‏؟‏ على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها معروفة من شجر الدنيا، ومن قال بهذا اختلفوا فيها فقال قطرب‏:‏ إنها شجرة مرّة تكون بتهامة من أخبث الشجر، وقال غيره بل كل نبات قاتل‏.‏

القول الثاني‏:‏ أنها لا تعرف في شجر الدنيا، فلما نزلت هذه الآية في شجرة الزقوم قال كفار قريش‏:‏ ما نعرف هذه الشجرة، فقال ابن الزبعرى‏:‏ الزقوم بكلام البربر‏:‏ الزبد والتمر فقال أبو جهل لعنه الله‏:‏ يا جارية ابغينا تمراً وزبداً ثم قال لأصحابه تزقموا هذا الذي يخوفنا به محمد يزعم أن النار تنبت الشجر، والنار تحرق الشجر‏.‏

‏{‏إنا جعلناها فتنة للظالمين‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن النار تحرق الشجر فكيف ينبت فيها الشجر وهذا قول أبي جهل إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه فكان هذا هو الفتنة للظالمين، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أن شدة عذابهم بها هي الفتنة التي جعلت لهم، حكاه ابن عيسى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم‏}‏ فكان المقصود بهذا الذكر أمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ وصفها لهم لاختلافهم فيها‏.‏

الثاني‏:‏ ليعلمهم جواز بقائها في النار لأنها تنبت من النار‏.‏

قال يحيى بن سلام‏:‏ وبلغني أنها في الباب السادس وانها تحيا بلهب النار كما يحيا شجركم ببرد الماء‏.‏

‏{‏طلعها كأنه رؤُوس الشياطين‏}‏ يعني بالطلع الثمر، فإن قيل فكيف شبهها برؤوس الشياطين وهم ما رأوها ولا عرفوها‏؟‏

قيل عن هذا أربعة أجوبة‏:‏

أحدها‏:‏ أن قبح صورتها مستقر في النفوس، وإن لم تشاهد فجاز أن ينسبها بذلك لاستقرار قبحها في نفوسهم كما قال امرؤ القيس‏:‏

ايقتُلني والمشرفيّ مضاجعي *** ومسنونةٍ زُرقٍ كأنياب أغوال

فشببها بأنياب الأغوال وإن لم يرها الناس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أراد رأس حية تسمى عندالعرب شيطاناً وهي قبيحة الرأس‏.‏

الثالث‏:‏ أنه أراد شجراً يكون بين مكة واليمن يسمى رؤوس الشياطين، قاله مقاتل‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثم إنّ لهم عليها لشوباً من حميم‏}‏ يعني لمزاجاً من حميم والحميم الحار الداني من الإحراق قال الشاعر‏:‏

كأن الحميم على متنها *** إذا اغترفته بأطساسها

جُمان يجول على فضة *** عَلَتْه حدائد دوّاسها

ومنه سمي القريب حميماً لقربه من القلب، وسمي المحموم لقرب حرارته من الإحراق، قال الشاعر‏:‏

أحم الله ذلك من لقاءٍ *** آحاد آحاد في الشهر الحلال

أي أدناه فيمزج لهم الزقوم بالحميم ليجمع لهم بين مرارة الزقوم وحرارة الحميم تغليظاً لعذابهم وتشديداً لبلاتهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ يعني بأن مأواهم لإلى الجحيم، قاله عبد الرحمن بن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ أن منقلبهم لإلى الجحيم، قاله سفيان‏.‏

الثالث‏:‏ يعني أن مرجعهم بعد أكل الزقوم إلى عذاب الجحيم، قاله ابن زياد‏.‏

الرابع‏:‏ أنهم فيها كما قال الله تعالى ‏{‏يطوفون بينها وبين حميم آن‏}‏ ثم يرجعون إلى مواضعهم، قاله يحيى بن سلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 82‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ‏(‏75‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏76‏)‏ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ‏(‏77‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏78‏)‏ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ‏(‏79‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏80‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏81‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون‏}‏ أي دعانا، ودعاؤه كان على قومه عند إياسه من إيمانهم، وإنما دعا عليهم بالهلاك بعد طول الاستدعاء لأمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ ليطهر الله الأرض من العصاة‏.‏

الثاني‏:‏ ليكونوا عبرة يتعظ بها من بعدهم من الأمم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ فلنعم المجيبون لنوح في دعائه‏.‏

الثاني‏:‏ فلنعم المجيبون لمن دعا لأن التمدح بعموم الإجابة أبلغ‏.‏

‏{‏ونجيناه وأهله‏}‏ قال قتادة‏:‏ كانوا ثمانية‏:‏ نوح وثلاثة بنين ونساؤهم، أربعة ‏[‏أي‏]‏ رجال وأربعة نسوة‏.‏

‏{‏من الكرب العظيم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ من غرق الطوفان، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ من الأذى الذي كان ينزل من قومه، حكاه ابن عيسى‏.‏

‏{‏وجعلنا ذريته هم الباقين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ والناس كلهم بعد نوح من ذريته وكان بنوه ثلاثة‏:‏ سام وحام ويافث، فالعرب والعجم أولاد سام، والروم والترك والصقالبة أولاد يافث والسودان من أولاد حام، قال الشاعر‏:‏

عجوز من بني حام بن نوح *** كأن جبينها حجر المقام

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وتركنا عليه في الآخرين‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه أبقى الله الثناء الحسن في الآخرين، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ لسان صدق للأنبياء كلهم، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ هو قوله سلام عل نوح في العالمين، قاله الفراء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 87‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ‏(‏83‏)‏ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ‏(‏84‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ‏(‏85‏)‏ أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ‏(‏86‏)‏ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن من شيعته لإبراهيم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ من أهل دينه، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ على منهاجه وسنته، قاله مجاهد‏.‏

وفي أصل الشيعة في اللغة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الأتباع ومنه قول الشاعر‏:‏

قال الخليط غداً تصدُّ عَنّا *** أو شيعَه أفلا تشيعنا

قوله أو شيعه أي اليوم الي يتبع غداً، قاله ابن بحر‏.‏

الثاني‏:‏ وهو قول الأصمعي الشيعة الأعوان، وهو مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار الذي يوضع مع الكبار حتى يستوقد لأنه يعين على الوقود‏.‏

ثم فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ إن من شيعة محمد لإبراهيم عليهما السلام، قاله الكلبي والفراء‏.‏

الثاني‏:‏ من شيعة نوح لإبراهيم، قاله مجاهد ومقاتل‏.‏

وفي إبراهيم وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه اسم أعجمي وهو قول الأكثرين‏.‏

الثاني‏:‏ مشتق من البرهمة وهي إدّامة النظر‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إذ جاء ربّه بقَلْب سليم‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ سليم من الشك، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ سليم من الشرك، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ مخلص، قاله الضحاك‏.‏

الرابع‏:‏ ألا يكون لعاناً، قاله عروة بن الزبير‏.‏

ويحتمل مجيئه إلى ربه وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ عند دعائه إلى توحيده وطاعته‏.‏

الثاني‏:‏ عند إلقائه في النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 98‏]‏

‏{‏فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ‏(‏88‏)‏ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ‏(‏89‏)‏ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ‏(‏90‏)‏ فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ‏(‏91‏)‏ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ ‏(‏92‏)‏ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ‏(‏93‏)‏ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ‏(‏94‏)‏ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ‏(‏95‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ‏(‏97‏)‏ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فنظر نظرة في النجوم‏}‏ فيها أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه رأى نجماً طالعاً، فعلم بذلك أن له إلهاً خالقاً، فكان هذا نظره في النجوم، قاله سعيد بن المسيب‏.‏

الثاني‏:‏ أنها كلمة من كلام العرب إذا تفكر الرجل في أمره قالوا قد نظر في النجوم، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه نظر فيما نجم من قولهم، وهذا قول الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ أن علم النجوم كان من النبوة، فلما حبس الله تعالى الشمس على يوشع بن نون أبطل ذلك، فنظر إبراهيم فيها ‏[‏كان‏]‏ علماً نبوياً، قاله ابن عائشة‏.‏

وحكى جويبر عن الضحاك أن علم النجوم كان باقياً إلى زمن عيسى ابن مريم عليه السلام حتى دخلوا عليه في موضع لا يطلع عليه فقالت لهم مريم من أين علمتم موضعه‏؟‏ قالوا‏:‏ من النجوم، فدعا ربه عند ذلك فقال‏:‏ اللهم فوهمهم في علمها فلا يعلم علم النجوم أحد، فصار حكمها في الشرع محظوراً وعلمها في الناس مجهولاً‏.‏ قال الكلبي وكانوا بقرية بين البصرة والكوفة يقال لها هرمزجرد وكانوا ينظرون في النجوم‏.‏

‏{‏فقال إني سقيم‏}‏ فيه سبعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنه استدل بها على وقت حمى كانت تأتيه‏.‏

الثاني‏:‏ سقيم بما في عنقي من الموت‏.‏

الثالث‏:‏ سقيم بما أرى من قبح أفعالكم في عبادة غير الله‏.‏

الرابع‏:‏ سقيم لشكه‏.‏

الخامس‏:‏ لعلمه بأن له إلهاً خالقاً معبوداً، قاله ابن بحر‏.‏

السادس‏:‏ لعلة عرضت له‏.‏

السابع‏:‏ أن ملكهم أرسل إليه أن غداً عيدنا فاخرج، فنظر إلى نجم فقال‏:‏ إن ذا النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقمي، فتولوا عنه مدبرين، قاله عبد الرحمن بن زيد قال سعيد بن المسيب‏:‏ كابد نبي الله عن دينه فقال إني سقيم‏.‏ وقال سفيان‏:‏ كانوا يفرون من المطعون فأراد أن يخلوا بآلهتهم فقال‏:‏ إني سقيم أي طعين وهذه خطيئته التي قال اغفر لي خطيئتي يوم الدين وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «لم يكذب إبراهيم غير ثلاث‏:‏ ثنتين في ذات الله عز وجل قوله إني سقيم، وقوله بل فعله كبيرهم هذا، وقوله في سارة هي أختي

»‏.‏ ‏{‏فراغ إلى ءَالَهِتِهِمْ‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ذهب إليهم، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ مال إليهم، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ صال عليهم، قاله الأخفش‏.‏

الرابع‏:‏ أقبل عليهم، قاله الكلبي وقطرب، وهذا قريب من المعنيين المتقدمين‏.‏

‏{‏فقال ألا تأكلون‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قال ذلك استهزاء بهم، قاله ابن زياد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه وجدهم حين خرجوا إلى عيدهم قد صنعوا لآلهتهم طعاماً لتبارك لهم فيه فلذلك قال للأصنام وإن كانت لا تعقل عنه الكلام احتجاجاً على جهل من عبدها‏.‏ وتنبيهاً على عجزها، ولذلك قال‏:‏

‏{‏ما لكم لا تنطقون‏}‏‏.‏

‏{‏فراغ عليهم ضرباً باليمين‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يده اليمنى‏.‏ قاله الضحاك، لأنها أقوى والضرب بها أشد‏.‏

الثاني‏:‏ باليمين التي حلفها حين قال ‏{‏وتالله لأكيدن أصنامكم‏}‏ حكاه ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ يعني بالقوة، وقوة النبوة أشد، قاله ثعلب‏.‏

‏{‏فأقبلوا إليه يزفون‏}‏ فيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ يخرجون، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ يسعون، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ يتسللون، حكاه ابن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ يرعدون غضباً، حكاه يحيى بن سلام‏.‏

الخامس‏:‏ يختالون وهو مشي الخيلاء، وبه قال مجاهد، ومنه أخذ زفاف العروس إلى زوجها، وقال الفرزدق‏:‏

وجاء قريع الشول قَبل إفالها *** يزفّ وجاءت خَلْفه وهي زفّف

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والله خلقكم وما تعملون‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الله خلقكم وخلق عملكم‏.‏

الثاني‏:‏ خلقكم وخلق الأصنام التي عملتموها‏.‏

‏{‏فأرادوا به كيداً‏}‏ يعني إحراقه بالنار التي أوقدوها له‏.‏

‏{‏فجعلناهم الأسفلين‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ الأسفلين في نار جهنم، قاله يحيى‏.‏

الثاني‏:‏ الأسفلين في دحض الحجة، قال قتادة‏:‏ فما ناظروه بعد ذلك حتى أهلكوا‏.‏

الثالث‏:‏ يعني المهلكين فإن الله تعالى عقب ذلك بهلاكهم‏.‏

الرابع‏:‏ المقهورين لخلاص إبراهيم من كيدهم‏.‏ قال كعب‏:‏ فما انتفع بالنار يومئذٍ أحد من الناس وما أحرقت منه يومئذٍ إلا وثاقه‏.‏

وروت أم سبابة الأنصارية عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثها أن «إبراهيم لما ألقي في النار كانت الدواب كلها تطفئ عنه النار إلا الوزغة فإنها كانت تنفخ عليها» فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 113‏]‏

‏{‏وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ‏(‏99‏)‏ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏100‏)‏ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ‏(‏101‏)‏ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ‏(‏102‏)‏ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ‏(‏103‏)‏ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ‏(‏104‏)‏ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏105‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ‏(‏106‏)‏ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ‏(‏107‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏108‏)‏ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ‏(‏109‏)‏ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏110‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏111‏)‏ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏112‏)‏ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ‏(‏113‏)‏‏}‏

‏{‏وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين‏}‏ وفي زمان هذا القول منه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه قال عند إلقائه في النار، وفيه على هذا القول تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ إني ذاهب إلى ما قضى به عليّ ربي‏.‏

الثاني‏:‏ إني ميت كما يقال لمن مات قد ذهب إلى الله تعالى لأنه عليه السلام تصور أنه يموت بإلقائه في النار على المعهود من حالها في تلف ما يلقى فيها إلى أن قيل لها كوني برداً وسلاماً، فحينئذٍ سلم إبراهيم منها‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏سيهدين‏}‏ على هذا القول تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ سيهدين إلى الخلاص من النار‏.‏

الثاني‏:‏ إلى الجنة‏.‏

فاحتمل ما قاله إبراهيم من هذا وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن بقوله لمن يلقيه في النار فيكون ذلك تخويفاً لهم‏.‏

الثاني‏:‏ أن بقوله لمن شاهده من الناس الحضور فيكون ذلك منه إنذارً لهم، فهذا تأويل ذلك على قول من ذكر أنه قال قبل إلقائه في النار‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه قاله بعد خروجه من النار‏.‏

‏{‏إني ذاهب إلى ربي‏}‏ وفي هذا القول ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ إني منقطع إلى الله بعبادتي، حكاه النقاش‏.‏

الثاني‏:‏ ذاهب إليه بقلبي وديني وعملي، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ مهاجر إليه بنفسي فهاجر من أرض العراق‏.‏ قال مقاتل‏:‏ هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارة‏.‏

وفي البلد الذي هاجر إليه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ إلى أرض الشام‏.‏

الثاني‏:‏ إلى أرض حران، حكاه النسائي‏.‏

وفي قوله‏:‏ سيهدين على هذا القول تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ سيهدين إلى قول‏:‏ حسبي الله عليه توكلت، قاله سليمان‏.‏

الثاني‏:‏ إلى طريق الهجرة، قاله يحيى‏.‏

واحتمل هذا القول منه وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن بقوله لمن فارقه من قومه فيكون ذلك توبيخاً لهم‏.‏

الثاني‏:‏ أن بقوله لمن هاجر معه من أهله فيكون ذلك منه ترغيباً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فبشرناه بغُلام حليم‏}‏ أي وقور‏.‏ قال الحسن‏:‏ ما سمعت الله يحل عباده شيئاً أجل من الحلم‏.‏

وفي قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه إسحاق، ولم يثن الله تعالى على أحد بالحلم إلا على إسحاق وإبراهيم قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ إسماعيل وبشر بنبوة إسحاق بعد ذلك، قاله عامر الشعبي‏.‏ قال الكلبي وكان إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فلما بلغ معه السعي‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يمشي مع أبيه، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أدرك معه العمل، قاله عكرمة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه سعي العمل الذي تقوم به الحجة، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ أنه السعي في العبادة، قاله ابن زيد‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ صام وصلى، ألم تسمع الله يقول ‏{‏وسعى لها سعيها‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 19‏]‏ قال الفراء والكلبي، وكان يومئذٍ ابن ثلاث عشرة سنة‏.‏

‏{‏قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحُك‏}‏ فروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«رؤيا الأنبياء في المنام وحي

»‏.‏ ‏{‏فانظُرْ ماذا تَرَى‏}‏ لم يقل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله سبحانه، وفيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه قاله إخباراً بما أمره الله تعالى به ليكون أطوع له‏.‏

الثاني‏:‏ أنه قاله امتحاناً لصبره على أمر الله تعالى‏.‏

الثالث‏:‏ أي ماذا تريني من صبرك أو جزعك، قاله الفراء‏.‏

‏{‏قال يا أبت افْعَلْ ما تؤمرُ‏}‏ الآية‏.‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ على الذبح، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ على القضاء، حكاه الكلبي، فوجده في الامتحان صادق الطاعة سريع الإجابة قوي الدين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فلما أسْلَما‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ اتفقا على أمر واحد، قاله أبو صالح‏.‏

الثاني‏:‏ سلما لله تعالى الأمر، وهو قول السدي‏.‏

قال قتادة‏:‏ سلم إسماعيل نفسه لله، وسلم إبراهيم ابنه لله تعالى‏.‏

‏{‏وتله للجبين‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه صرعه على جبينه، قاله ابن عباس، والجبين ما عن يمين الجبهة وشمالها، قال الشاعر‏:‏

وتله أبو حكم للجبين *** فصار إلى أمِّه الهاوية

الثاني‏:‏ أنه أكبَّه لوجهه، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أنه وضع جبينه على تل، قاله قطرب‏.‏

وحكى مجاهد عن إسحاق أنه قال‏:‏ يا أبت اذبحني وأنا ساجد، ولا تنظر إلى وجهي فعسى أن ترحمني فلا تذبحني‏.‏

‏{‏وناديناه أن يا إبراهيم قد صَدَّقْتَ الرؤيا‏}‏ أي عملت ما رأيته في المنام، وفي الذي رآه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الذي رآه أنه قعد منه مقعد الذابح ينتظر الأمر بإمضاء الذبح‏.‏

الثاني‏:‏ أن الذي رآه أنه أمر بذبحه بشرط التمكين ولم يمكن منه لما روي أنه كان كلما اعتمد بالشفرة انقلبت وجعل على حلقه صفيحة من نحاس‏.‏

الثالث‏:‏ أن الذي رآه أنه ذبحه وقد فعل ذلك وإنما وصل الله تعالى الأوداج بلا فصل‏.‏

‏{‏إنا كذلك نجزِي المحسنين‏}‏ بالعفو عن ذبح ابنه‏.‏

وفي الذبيح قولان مثل اختلافهم في الحليم الذي بشر به‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه إسحاق، قاله علي رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وكعب الأحبار وقتادة والحسن‏.‏ قال ابن جريج ذبح إبراهيم ابنه إسحاق وهو ابن سبع سنين وولدته سارة وهي بنت تسعين سنة‏.‏

وفي الموضع الذي أراد ذبحه فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ بمكة في المقام‏.‏

الثاني‏:‏ في المنحر بمنى‏.‏

الثالث‏:‏ بالشام، قاله ابن جريج وهو من بيت المقدس على ميلين‏.‏ ولما علمت سارة ما أراد بإسحاق بقيت يومين وماتت في اليوم‏.‏

القول الثاني‏:‏ أنه إسماعيل، قاله ابن عباس وعبد الله بن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب، وأنه ذبحه بمنى عند الجمار التي رمى إبليس في كل جمرة بسبع حصيات حين عارضه في ذبحه حتى جمر بين يديه أي أسرع فسميت جماراً‏.‏

وحكى سعيد بن جبير أنه ذبحه على الصخرة التي بأصل ثبير بمنى‏:‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنَّ هذا لهو البلاءُ المبين‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الاختبار العظيم، قاله ابن قتيبة‏.‏

الثاني‏:‏ النعمة البينة، قاله الكلبي ومقاتل وقطرب وأنشد قول الحطيئة‏:‏

وإن بلاءهم ما قد علمتم *** على الأيام إن نفع البلاءُ

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وفديناه بذبح عظيم‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه فدى بوعل أنزل عليه من ثبير، قاله ابن عباس، وحكى عنه سعيد ابن جبير أنه كبش رعي في الجنة أربعين خريفاً‏.‏

الثاني‏:‏ أنه فدي بكبش من غنم الدنيا، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ أنه فدي بكبش أنزل عليه من الجنة وهو الكبش الذي قربه هابيل بن آدم فقيل منه‏.‏ قال ابن عباس حدثني من رأى قرني الكبش الذي ذبحه إبراهيم عليه السلام معلقين بالكعبة‏.‏ والذبح بالكسر هو المذبوح، والذبح بالفتح هو فعل الذبح‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏عظيم‏}‏ خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ لأنه قد رعى في الجنة، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ لأنه ذبح بحق، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ لأنه عظيم الشخص‏.‏

الرابع‏:‏ لأنه عظيم البركة‏.‏

الخامس‏:‏ لأنه متقبل، قاله مجاهد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وتركنا عليه في الآخِرين‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ الثناء الحسن، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ هو السلام على إبراهيم، قاله عكرمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 122‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏114‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏115‏)‏ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ‏(‏116‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ‏(‏117‏)‏ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏118‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏119‏)‏ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏120‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏121‏)‏ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولقد مننا على موسى وهارون‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بالنبوة، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ بالنجاة من فرعون، قاله الكلبي‏.‏

‏{‏ونجيناهما‏}‏ الآية‏.‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ من الغرق‏.‏

الثاني‏:‏ من الرق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 132‏]‏

‏{‏وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏124‏)‏ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ‏(‏125‏)‏ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏126‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ‏(‏127‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏128‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏129‏)‏ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ‏(‏130‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏131‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن إلياس لمن المرسلين‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه إدريس قاله ابن عباس وقتادة، وهي قراءة ابن مسعود‏:‏ وابن إدريس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه من ولد هارون، قاله محمد بن إسحاق، قال مقاتل‏:‏ هو إلياس بن بحشر، وقال الكلبي هو عم اليسع‏.‏ وجوز قوم أن يكون هو إلياس بن مضر‏.‏

وقيل لما عظمت الأحداث في بني إسرائيل بعد حزقيل بعث الله إليهم إلياس عليه السلام نبياً، وتبعه اليسع وآمن به، فلما عتا عليه بنو إسرائيل دعا ربه أن يقبضه إليه ففعل وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وصار مع الملائكة إنيساً ملكياً، أرضياً سماوياً، والله أعلم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أتدعون بعلاً‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ يعني ربّاً، قاله عكرمة ومجاهد‏.‏ قال مقاتل هي لغة أزد شنوءة، وسمع ابن عباس رجلاً من أهل اليمن يسوم ناقة بمنى فقال‏:‏ من بعل هذه أي ربها، ومنه قول أبي دؤاد‏:‏

ورأيت بعلك في الوغى *** متقلداً سيفاً ورمحا

الثاني‏:‏ أنه صنم يقال له بعل كانوا يعبدونه وبه سميت بعلبك، قاله الضحاك وابن زيد وقال مقاتل‏:‏ كسره إلياس وذهب‏.‏

الثالث‏:‏ أنه اسم امرأة كانوا يعبدونها، قاله ابن شجرة‏.‏

‏{‏وتذرون أحْسَنَ الخالقين‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ من قيل له خالق‏.‏

الثاني‏:‏ أحسن الصانعين لأن الناس يصنعون ولا يخلقون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏

‏{‏سلامٌ على إِلْ يَاسِينَ‏}‏ قرأ نافع وابن عامر‏:‏ سلامٌ على آل ياسين بفتح الهمزة ومدها وكسر اللام، وقرأ الباقون بكسر الهمزة وتسكين اللام، وقرأ الحسن‏:‏ سلام على ياسين بإسقاط الألف واللام، وقرأ ابن مسعود‏:‏ سلام على ادراسين، لأنه قرأ وإن إدريس لمن المرسلين‏.‏

فمن قرأ الياس ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه جمع يدخل فيه جميع آل إلياس بمعنى أن كل واحد من أهله يسمى الياس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه إلياس فغير بالزيادة لأن العرب تغير الأسماء الأعجمية بالزيادة كما يقولون ميكال وميكاييل وميكائين‏.‏ قال الشاعر‏:‏

يقول أهل السوق لما جينا *** هذا وربِّ البيت إسرائينا

ومن قرأ آل ياسين ففي قراءته وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم آل محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم آل إلياس‏.‏

فعلى هذا في دخول الزيادة في ياسين وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها زيدت لتساوي الآي، كما قال في موضع طور سيناء، وفي موضع آخر طور سينين، فعلى هذا يكون السلام على أهله دونه وتكون الإضافة إليه تشريفاً له‏.‏

الثاني‏:‏ أنها دخلت للجمع فيكون داخلاً في جملتهم ويكون السلام عليه وعليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏133- 138‏]‏

‏{‏وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏133‏)‏ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏134‏)‏ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ‏(‏135‏)‏ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏136‏)‏ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ‏(‏137‏)‏ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

‏{‏إلا عجوزاً في الغابرين‏}‏ فيها أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ الهالكين، قاله السّدي‏.‏

الثاني‏:‏ في الباقين من الهالكين، قاله ابن زيد‏.‏

الثالث‏:‏ في عذاب الله تعالى، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ في الماضين في العذاب، حكاه مقاتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏139- 148‏]‏

‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏139‏)‏ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏140‏)‏ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ‏(‏141‏)‏ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ‏(‏142‏)‏ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ‏(‏143‏)‏ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏144‏)‏ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ‏(‏145‏)‏ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ‏(‏146‏)‏ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ‏(‏147‏)‏ فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏148‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن يونس لمن المرسلين‏}‏ قال السدي‏:‏ يونس بن متى نبي من أنبياء الله تعالى بعثه إلى قرية يقال لها نينوى على شاطئ دجلة‏:‏ قال قتادة‏:‏ وهي من أرض الموصل‏.‏

‏{‏إذ أبق إلى الفُلك المشحون‏}‏ والآبق الفارّ إلى حيث لا يعلم به، قال الحسن‏:‏ فر من قومه وكان فيما عهد إليهم أنهم إن لم يؤمنوا أتاهم العذاب، وجعل علامة ذلك خروجاً من بين أظهرهم، فلما خرج عنه جاءتهم ريح سوداء فخافوها فدعوا الله بأطفالهم وبهائمهم فأجابهم وصرف العذاب عنهم فخرج مكايداً لقومه مغاضباً لدين ربه حتى أتى البحر فركب سفينة وقد استوقرت حملاً، فلما اشتطت بهم خافوا الغرق‏.‏

وفيما خافوا الغرق به قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أمواج من ريح عصفت بهم قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ من الحوت الذي عارضهم، حكاه ابن عيسى، فقالوا عند ذلك‏:‏ فينا مذنب لا ننجو إلا بإلقائه، فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس فألقوه، وهو معنى قوله تعالى‏:‏

‏{‏فساهَم‏}‏ أي قارع بالسهام، قاله ابن عباس والسدي‏.‏

‏{‏فكان من المدحضين‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ من المقروعين، قاله ابن عباس ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ من المغلوبين، قاله سعيد بن جبير، ومنه قول أبي قيس‏:‏

قتلنا المدحضين بكل فج *** فقد قرت بقتلهم العيون

الثالث‏:‏ أنه الباطل الحجة، قاله السدي مأخوذ من دحض الحجة وهو بطلانها فلما ألقوه في البحر آمنوا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فالتقمه الحوت وهُو مليم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أوحى الله تعالى إلى سمكة يقال لها اللخم من البحر الأخضر أن شقي البحار حتى تأخذي يونس، وليس يونس لك رزقاً، ولكن جعلت بطنك له سجناً، فلا تخدشي له جلداً ولا تكسري له عظماً، فالتقمه الحوت حين ألقي‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وهو مليم‏}‏ ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أي مسيء مذنب، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ يلوم نفسه على ما صنع، وهو معنى قول قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ يلام على ما صنع، قاله الكلبي‏.‏

والفرق بين الملوم والمليم أن المليم اذا أتى بما يلام عليه، والملوم إذا ليم عليه‏.‏

‏{‏فلولا أنه كان مِن المسبحين‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ من القائلين لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ من المصلين قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ من العابدين، قاله وهب بن منبه‏.‏

الرابع‏:‏ من التائبين، قاله قطرب‏.‏ وقيل تاب في الرخاء فنجاه الله من البلاء‏.‏

‏{‏للبث في بطنه إلى يوم يبعثون‏}‏ قال قتادة‏:‏ إلى يوم القيامة حتى يَصير الحوت له قبراً، وفي مدة لبثه في بطن الحوت أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ بعض يوم، قال الشعبي‏:‏ التقمه ضحى ولفظه عشية‏.‏

الثاني‏:‏ ثلاثة أيام، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ سبعة أيام، قاله جعفر‏.‏

الرابع‏:‏ أربعون يوماً، قاله أبو مالك، وقيل إنه سار بيونس حتى مر به إلى الإيلة ثم عاد في دجلة إلى نينوى‏.‏

‏{‏فنبذناه بالعراء‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ بالساحل، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ بالأرض، قاله السدي، قال الضحاك‏:‏ هي أرض يقال لها بلد‏.‏

الثالث‏:‏ موضع بأرض اليمن‏.‏

الرابع‏:‏ الفضاء الذي لا يواريه نبت ولا شجر، قال الشاعر‏:‏

ورفعت رِجْلاً لا أخاف عثارها *** ونبذت بالبلد العراء ثيابي

‏{‏وهو سقيم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ كهيئة الصبي، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ كهيئة الفرخ الذي ليس له ريش، قاله ابن مسعود لأنه ضعف بعد القوة، ورق جلده بعد الشدة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وأنبتنا عليه شجرة من يقطين‏}‏ فيها خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه القرع، قاله ابن مسعود‏.‏

الثاني‏:‏ أنه كل شجرة ليس فيها ساق يبقى من الشتاء إلى الصيف، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ أنها كل شجرة لها ورق عريض، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ أنه كل ما ينبسط على وجه الأرض من البطيخ والقثاء، رواه القاسم بن أبي أيوب‏.‏

الخامس‏:‏ أنها شجرة سماها الله تعالى يقطيناً أظلته رواه هلال بن حيان‏.‏ وهو تفعيل من قطن بالمكان أي أقام إقامة زائل لا إقامة راسخ كالنخل والزيتون، فمكث يونس تحتها يصيب منها ويستظل بها حتى تراجعت نفسه إليه، ثم يبست الشجرة فبكى حزناً عليها، فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ أتبكي على هلاك شجرة ولا تبكي على هلاك مائة ألف أو يزيدون‏؟‏ حكاه ابن مسعود‏.‏

وحكى سعيد بن جبير أنه لما تساقط ورق الشجر عنه أفضت إليه الشمس فشكاه فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ يا يونس جزعت من حر الشمس ولم تجزع لمائة ألف أو يزيدون تابوا إليّ فتبت عليهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون‏}‏ فيهم قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أرسل إليهم بعدما نبذه الحوت، قاله ابن عباس، فكان أرسل إلى قوم بعد قوم‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أرسل إلى الأولين فآمنوا بشريعته، وهو معنى قول ابن مسعود‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏أو يزيدون‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه للإبهام كأنه قال أرسلناه إلى أحد العددين‏.‏

الثاني‏:‏ أنه على شك المخاطبين‏.‏

الثالث‏:‏ أن معناه‏:‏ بل يزيدون، قاله ابن عباس وعدد من أهل التأويل، مثله قوله فكان قاب قوسين أو أدنى يعنى بل أدنى، قال جرير‏:‏

أثعلبة الفوارس أو رباحاً *** عدلت بهم طهية والخشابا

والمعنى أثعلبة بل رباحاً‏.‏

واختلف من قال بهذا في قدر زيادتهم على مائة ألف على خمسة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يزيدون عشرين ألفاً، رواه أُبي بن كعب مرفوعاً‏.‏

الثاني‏:‏ يزيدون ثلاثين ألفاً، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ يزيدون بضعة وثلاثين ألفاً، قاله الحكم‏.‏

الرابع‏:‏ بضعة وأربعين ألفاً رواه سفيان بن عبد الله البصري‏.‏

الخامس‏:‏ سبعين ألفاً، قاله سعيد بن جبير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏149- 160‏]‏

‏{‏فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ‏(‏149‏)‏ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ‏(‏150‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ‏(‏151‏)‏ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏152‏)‏ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ‏(‏153‏)‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏154‏)‏ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏155‏)‏ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ‏(‏156‏)‏ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏157‏)‏ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ‏(‏158‏)‏ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏159‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أم لكم سلطان مبين‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ عذر مبين، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ حجة بينة، قاله ابن قتيبة‏.‏

الثالث‏:‏ كتاب بيّن، قاله الكلبي‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وجعلوا بينه وبين الجِنة نسباً‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه إشراك الشيطان في عبادة الله تعالى فهو النسب الذي جعلوه، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ هو قول يهود أصبهان أن الله تعالى صاهر الجن فكانت الملائكة من بينهم، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ هو قول الزنادقة‏:‏ إن الله تعالى وإبليس أخوان، وأن النور والخير والحيوان النافع من خلق الله، والظلمة والشر والحيوان الضار من خلق إبليس، قاله الكلبي وعطية العوفي‏.‏

الرابع‏:‏ هو قول المشركين، إن الملائكة بنات الله فقال لهم أبو بكر‏:‏ فمن أمهاتهم‏؟‏ قالوا‏:‏ بنات سروات الجن، قاله مجاهد‏.‏

وفي تسمية الملائكة على هذا الوجه جنة ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم بطن من بطون الملائكة يقال لهم الجنة، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ لأنهم على الجنان، قاله أبو صالح‏.‏

الثالث‏:‏ لاستتارهم عن العيون كالجن المستخفين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون‏}‏ وفي الجنة قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الملائكة، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم الجن، قاله مجاهد‏.‏

وفيما علموه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم علموا أن قائل هذا القول محضرون، قاله علي بن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ علموا أنهم في أنفسهم محضرون، وهو قول من زعم أن الجنة هم الجن‏.‏

وفي قوله محضرون تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ للحساب، قال مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ محضرون في النار، قاله قتادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏161- 169‏]‏

‏{‏فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ‏(‏161‏)‏ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ‏(‏162‏)‏ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ‏(‏163‏)‏ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ‏(‏164‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ‏(‏165‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ‏(‏166‏)‏ وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ ‏(‏167‏)‏ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏168‏)‏ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏169‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فإنكم وما تعبدون‏}‏ يعني المشركين وما عبدوه من آلهتهم‏.‏

‏{‏ما أنتم عليه بفاتنين‏}‏ أي بمضلين، قال الشاعر‏:‏

فرد بنعمته كيده *** عليه وكان لها فاتناً

‏{‏إلا من هو صالِ الجحيم‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إلا من سبق في علم الله تعالى أنه يصلى الجحيم، قاله ابن عباس‏.‏

قوله عز وجل ‏{‏وما مِنّا إلا له مقامٌ معلوم‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما منا ملك إلا له في السماء مقام معلوم، قاله ابن مسعود وسعيد بن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ ما حكاه قتادة قال‏:‏ كان يصلي الرجال والنساء جميعاً حتى نزلت ‏{‏وما منا إلا له مقام معلوم‏}‏ قال فتقدم الرجال وتأخر النساء‏.‏

ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل‏.‏

ثالثاً‏:‏ وما منا يوم القيامة إلا من له فيها مقام معلوم بين يدي الله عز وجل‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإنا لنحن الصّافون‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الملائكة يقفون صفوفاً في السماء، قيل حول العرش ينتظرون ما يؤمرون به، وقيل في الصلاة مصطفين‏.‏ وحكى أبو نضرة أن عمر رضي الله كان إذا قام إلى الصلاة قال‏:‏ يريد، الله بكم هدى الملائكة ‏{‏وإنا لنحن الصافون‏}‏ تأخر يا فلان، ثم يتقدم فيكبر‏.‏

الثاني‏:‏ ما حكاه أبو مالك قال كان الناس يصلون متبددين فأنزل الله عز وجل ‏{‏وإنا لنحن الصافون‏}‏ فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يصطفوا‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإنا لنحن المسبحون‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ المصلّون، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ المنزِّهون الله عما أضافه إليه المشركون أي فكيف لا تعبدونه ونحن نعبده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏170- 179‏]‏

‏{‏فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏170‏)‏ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ‏(‏171‏)‏ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ‏(‏172‏)‏ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏173‏)‏ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏174‏)‏ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏175‏)‏ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏176‏)‏ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏177‏)‏ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏178‏)‏ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏179‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولقد سبقت كلمتُنا لعبادنا المرسلين‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ سبقت بالحجج، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم سينصرون، قال الحسن‏:‏ لم يقتل من الرسل أصحاب الشرائع أحد قط‏.‏

‏{‏إنهم لهم المنصرون‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ بالحجج في الدنيا والعذاب في الآخرة، قاله السدي والكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ بالظفر إما بالإيمان أو بالانتقام، وهو معنى قول قتادة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فتولَّ عنهم حتى حين‏}‏ فيه أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ يوم بدر، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ فتح مكة، حكاه النقاش‏.‏

الثالث‏:‏ الموت، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ يوم القيامة، وهو قول زيد بن أسلم‏.‏

وفي نسخ هذه الآية قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها منسوخة، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنها ثابتة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وأبْصِر فسوف يبصرون‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أبصر ما ضيعوا من أمر الله فسوف يبصرون ما يحل بهم من عذاب الله وهو معنى قول ابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ أبصرهم في وقت النصرة عليهم فسوف يبصرون ما يحل لهم، حكاه ابن عيسى‏.‏

الثالث‏:‏ أبصر حالهم بقلبك فسوف يبصرون ذلك في القيامة‏.‏

الرابع‏:‏ أعلمهم الآن فسوف يعلمونه بالعيان وهو معنى قول ثعلب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏180- 182‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏180‏)‏ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ‏(‏181‏)‏ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏182‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏سبحان ربك رب العزة عما يصفون‏}‏ روى الشعبي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من سرَّه أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم‏:‏ ‏{‏سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين‏}‏

»‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رب العزة‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ مالك العزة‏.‏

الثاني‏:‏ رب كل شيء متعزز من مالك أو متجبر‏.‏

‏{‏وسلامٌ على المرسلين‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ سلامه عليهم إكرماً لهم‏.‏

الثاني‏:‏ قضاؤه بسلامتهم بعد إرسالهم فإنه ما أمر نبي بالقتال إلا حرس من القتل‏.‏

‏{‏والحمد لله رب العالمين‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ على إرسال الأنبياء مبشرين ومنذرين‏.‏

الثاني‏:‏ على جميع ما أنعم به على الخلق أجمعين‏.‏